النظرية الوضعية في الدرس اللغوي القديم والمعاصر الجذور والابعاد

يتناول هذا الكتاب (النظرية الوضعية) المبثوثة في كتب (علم الوضع)، معرّفاً بمفهومها وأنواعها وأركانها وخصائصها وسماتها، ومحاولاً بيان أثر هذه النظرية اللغوية في المنجز اللساني العربي القديم برمته، من مدونات معجمية، ومباحث صرفية، ومسائل نحوية، وقواعد بلاغية، رابطاً بين التأصيل النظري والميادين التطبيقية التي تجلَّى فيها بشكل بارز، وذلك في تصنيفاتها وأحكامها وقضاياها وتوجيهاتها المختلفة وقراءاتها النقدية المتنوعة.وقبل ذلك كله حاولنا الوقوف على جذور هذه النظرية اللسانية العربية التي تفصل دراسياً الواقع الاستعمالي وأحكامه الطارئة عن الأصل الوضعي وأحكامه الأصلية، وذلك من خلال الوقوف على الرؤية الفلسفية ومباحثها التي أنجزت هذه النظرية وشاركت في تقريرها، ومن خلال التعرض للمباحث الأصولية التي نظّرت للألفاظ ودلالاتها وضعاً واستعمالاً واستدلالاً، وقدّمت بحوثاً وضعيةً عالية النظر، لا يمكن تجاوزها وتخطيها، فلا عجب أن تنشأ هذه النظرية عميقة الأبعاد مترامية الآفاق في المنجز اللِّساني المتنوِّع الهائل بعد أن عرض لها الفلاسفة في أبحاثهم عن اللغة والفكر، والأصوليون في كتاباتهم عن قواعد الاستدلال على الأحكام من التراكيب اللفظية ودلالاتها.وكان لا بد لهذا البحث أن يسبر غور الدراسات اللسانية العربية والغربية المعاصرة بغية استكشاف التأثير والتأثر بهذه النظرية ومباحثها، حتى أدركنا أنَّ كثيراً من المنجز اللساني الغربي والعربي المعاصرين يعتمدان (المواضعة) منهجاً في تحليل النصوص، وأساساً ثابتاً يتحاكمون عنده في الكشف عن المضامين والأهداف والمقاصد، ومعياراً علمياً ينبو عن القراءات البعيدة عن روح النص ومقاصد المؤلفين وأغراض الكلام وغاياته وفوائده.ويمكن عدُّ هذه النظرية سوراً منيعاً يصعب نسفُه على مَن حاول قراءة النصوص خاليةً من مرجعيّة وضعيّة، تعارفَ عليها أبناء اللّسان الواحد، أو سكبَ دلالاتٍ تأويلية لا تنسجمُ مع آفاق النص ومقصديَّة مبدعه وواضعه؛ لأنَّها أساس متينٌ محكمُ التركيب، تضعُ لكل المكونات التركيبية والتراكيب، حقيقيها ومجازيها دلالاتٍ وضعيّةً يلتزم بها أهل ذلك اللسان، ولا يخرجون عنها، وإلا فشلت الرسالة الكلامية، ولم يتحقّق التواصل الناجح بين أعضاء البيئة اللغوية الواحدة.