بحوث في لغة الشعر وعروضه

تحكي هذه البحوث قصة شاعر نشأ عظيم الطموح في مدينة تتناجى لياليها وأسحارها وعصافيرها وذكواتها بالشعر على الرغم من غلالة الحزن التي تحيط بعينيها ورائحة التاريخ التي تعطر أنفاسها، فهي تنغّم كل شيء، بَاعَتُها في أسواقها يتنادون بإيقاع، شرفاتها وشبابيك (شناشيلها) تتنهد بإيقاع، طرقاتها ومارّتها تتحرك وتتمدد بإيقاع، كانت في خاطره مدينة حلم في حلم المدينة. وظل هذا الشاعر يكبر عمراً ويعلو صوتاً فكلما أصغت إليه مدينته الحبيبة إزداد أشواقاً ورقَّ ألحاناً، لكن بعض أهله يعكر صفو حلمه، فيثور ويتمرد فاصطبغ شعره وعالمه بلون ذلك التمرد حتى أحب التمرد والمتمردين فقد وجد فيهم عشاق حرية؛ وكبر الشاعر وكبر طموحه وتمرد معه حتى لم تعد الآفاق تحتمله أو تحتمل صوته فدخل بل زج في صراع شياطين الأنس أو أنس الشياطين حتى قرر في يوم يملؤه الحزن أن يحتبس شعوره في صندوقه خوفاً عليه من سراق الشعراء فقد كثر في أيامه قراصنة الشعر والشعراء وأشيدت أسواق لتجارة الشعر ونخاسي الشعراء تعلق فيها قوائم تعلن عن أسعار قصائد الشعر وأثمان الشعراء. ومما يثير الإستغراب أنّ الشعراء كانوا يتبارون في هذه الأسواق ويتباهون في بيع أصواتهم وقلوبهم لعتاة النخاسين، فتدارك شاعرنا نفسه وقرر أن يلوذ بوديان الصمت وفي هذه الوديان الظمأى نبثت هذه البحوث لكنها آثرت أن تعيش في رحاب تاريخ أقدم لتسلم من نظرات عشاق مذلتهم وألسنهم وتعيش في رحاب الشعر وموسيقاه ولغته التي تنتهك قيود اللغة وتخلق فيه لغة وترسم صوراً وألواناً وينابيع ورد. كما حاولتْ أن تستوعب ألوان موسيقى الشعر والصراع الأزلي بين الشاعر واللغوي منذ ابن أبي إسحاق والفرزدق ثم أبو عمرو بن العلاء وذو الرمَّة حتى الدكتور رمضان عبد التواب وخليل العطية وشعراء عصرهما؛ فاللغوي والشاعر كلاهما عاشق للغة وبينهما تعيش اللغة بكل طاقاتها وأنظمتها وآفاق عوالمها، فاللغوي يقنن وينظّر وينظّم، والشاعر يخلق صوراً ويطور أساليب من أصوات اللغة وكلماتها وتراكيبها التي يتمسك بها اللغوي، هكذا تعيش اللغة وتمتد حياتها بين إبداع الشاعر عوالمه وآفاقه وصوره من مادة اللغة وبين إصرار اللغوي على الحفاظ على المألوف من صور اللغة وأساليبها لئلا ترتبك ويغزوها الغريب الأجنبي، نجد الحرية والمحافظة تيارين متوازيين تمتد بينهما اللغة وتتطور وتزدهر. وهكذا قام المؤلف في الكتابة عن لغة الشعر عند المعري، ليحيط أطراف موضوع لغة الشعر القديم ثم يعود إلى لغة شعرنا الحديث.