ضجيج الصمت

ما زلت أقـول : مهما علا صوتُ التدجيل وارتفعت أبواق التزييف فـإنّ للحـقِّ رجالاً لا يعبأون بتطبيلٍ ولا يلتفتون إلى تهليلٍ ؛ وإنما يجعلون التاريخ أمام أعينُهم فهم دائمًـا وأبـدًا في خوفٍ من كلمةٍ ترميهم بنفاقٍ أو لفظةٍ تنالُ من ضميرهم وأمانتهم ؛ ولذا فإنّ هوَسَ التكنولوجيا الحديثة وما صنع هذا الهوس من ثقافة البهرجة والأضواء الزائفة لـم يكن سوى محنـةٍ امتـدّت منذ سنة 2014 مع بزوغ زمن الصالونات الأدبية التي خلت من كلِّ معنى إلا من ذلك المعنى الذي لا يفيد عقلاً ولا يرتقي بنفسٍ ولا يـوقظ ضميرًا أو يثبِّت فكرةً من أفكار العقيدة = لذا فــإنَّ هذا الهوس قــد آن أوان قمْعه ، وحان موعد موتـه بعد أن طفح الكيل من هؤلاء الذين يجلسُون في بيوتهم وهم يظنُّون أنهم سدنة الإبداع وآلهة الحرف وأنّ أسماءهم يلهج الخلقُ بها آناء الليل وأطراف النهار ، بينما هم في واقع الأمـر محض كُــتّــاب وشعراء يــُقدِّمُون طريقة بيانية ويـُعبِّرون عن أنفسهم ، ونحن ننظر إليهم على أنهم ذوات تمارس الإبداع ، ولا شيء فوق ذلك ولا شيء بعده . لقد كتبتُ عن أُناسٍ من أهل صناعة الشعر والنثر معًا ، فكان مقصدي أن أُنــبِّــه الناس إلى إجادتهم وجهودهم المستحسنة ؛ غير أنّ زمن الفساد انعكس بدوره على أصحاب الكلمة فظنّ هؤلاء أنهم كبارُ الفنّ وصناديد الإبداع ، وما فهموا أنـه لولا اهتمامي وعنـايــة أمثالي بهم لظلُّوا بظلمات الحارات والأزقّــة قـد ملأت عقولهم براغيث الشعور بالتهميش وانتشر برءوسهم قَمْلُ الحقد والكراهية والإيمان بأنهم لا شيء ، وما فهموا أننا نقوم بدورنا إزاء منحة وهبنا الله إياها فرأينا أنّ النقد لا بــدّ أن يسير بطريقين لا بطريقٍ واحـدٍ ، فالنقد كما ينظر للكبير الفحل ليقول لأبناء الدرب ها هنا قــدوةٌ فعلى خطوه فسيروا ، كذلك يجب أن ينظر إلى طبقة المهمّشين ، لا سيّما في عهدنا هذا ، بعد أن صار النقد يقتات من موائد الفسول لأنهم يستطيعون إطعام كلّ ناقـدٍ يظنّ النقد خادمًا مطيعًا لمن يدفع ولمن يقدِّم ثمن السلعة . وقـد رأيتُ بعد طول تأمِّلٍ أنْ أرفع قلمي قليلاً وأن أُعرض عن كلِّ حديث عهدٍ بأرض الإبداع بعد أن رأيتُ النفوس تستغلُّ ذلك في فرْض سلطويةٍ أدبيةٍ على الناس دون نظرٍ منطقيٍّ إلى طبيعة التطور الملاصقة لظاهرة الزمن ، فنحن إذ نفعل ذلك فإنما نحاول المحافظة على مسيرة الأدب الأخلاقية ووضْع قانون للعقول التي خيَّــلَ لها شيطانها أنها قـد تعبث بحركة التاريخ ودورة التطور الإنساني والفكريّ ؛ وقـد رأيتُ أن أوجبَ الحقوق على الناقــد هو أن يـقف طويلاً أمام شيوخ الإبداع ، لا سيّما من يعرفُ النقّادُ قـدرُه غير أنهم آمنوا بمادية االكلمة وغابوا عن حقيقتها التي تفرضُ علينا أن نجعل ما لقيصر لقيصر وما لله لله ، ولذا فقد رأيتُ أنْ أقــومَ بواجبي أمام شاعريــة رجلٍ هو بقية الكبار وآخر عباقرة زمن العباقرة . وها هو ديوانـه (( ضجيج الصمت )) عندي ، أنـقـله من الورق إلى الورق ، وأضعه أمام عيني حتى إذا ما فرغتُ منه قامت المؤسسة العربية بطبعه على ما يليق بمكانة صاحبه ، ولقـد أشرت على الناشر أن يصدر هذا المجلد في صورتين ، صورة شعبية كى يصل الكتاب إلى جمهرة القرّاء ، وصورة فخمة تليق باسم صاحبه ، وإني إذ أعكف على هذا الديوان كى أعِــدّه للطباعة فإنما أقــوم بدورٍ سيكون خطوةً كبيرةً في تاريخي الأدبي ، ويكفيني من هذه الصفقة الرابحـة أن يقول الأدباء إنّ آخـر إصدارات شاعرية العربية أحمد غراب قــد نقله من المخطوطة إلى الورق الطباعيّ واعتنى بـه وهيأه للنشر بعد أن كتبَ مادَّتـه حرفًا حـرفًا الأخ محمد دحــروج . وإني إذ أقــوم بهذا الأمــر العظيم في هذه الأيام فسأجعلها فرصة لمناقشة بعض قصائد الديوان ونشر هذه الدراسات على الناس لتكون خير توطئةٍ لصدور (( ضجيج الصمت )) .