محمود درويش قيثارة فلسطين

يحتلّ محمود درويش، بلا ريب، منزلية عليا في الشعر العربي والعالمي، وليس في صيته الذائع، وشهرته الواسعة، دليل على سمو هذه المنزلة، وعلو هذا الشأن حسب، بل في إعادة طباعة مجموعاته الشعرية، ودواوينه الكاملة، مراتٍ كثيرة جدّاً، ما يبرهن على صحة هذا التقويم. ومن المرجَّح أنّ شدة الإقبال على قراءة شعره هي ما يشجع بعض الناشرين على طبع دواوينه، ونشرها من باب الاعتداء على الملكية الفكرية، والأدبية، فكثرَ لذلك المتاجرون بشعره ممَّنْ لا يتورّعون عنْ سرقة الأثر الفكري مثلما تسرقُ الآثار من المتاحف، أو من باطن الأرض. وبرحيل درويش الفاجع تكتمل التجربة، وتتألق، في غيابه مثلما تألقت في حياته، وحضوره، فيهتم بها الباحثون، والدراسون، كلُّ بقدْر ما يستطيع، حتى تتمكن الأجيال الجديدة، والشابة، من مُتذوقي الشعر، ومن طلبة الدراسات الأدبية، واللغوية، والجمالية، في الجامعات، من التواصل مع هذا الشاعر، وشعره. وتأتي الفصول التسعة اللاحقة، والتمهيد المُوطـِّئُ لهذا الكتاب، خطوة رائدة، وأولى، على هذا الطريق. ففيها أضواءٌ تراق على علاقة درويش بالمكان، وبالآخر، وبالتراث، وعلى الغنائية في شعره، باعتباره عازفاً، ومنشدًا، ومغنيًا، يطرب الأسماع، ويشنف الآذان، قبل أن يبهر الأبصار، ويمتع العقول والأذهان. وعلى الموت، وعلاقة الشاعر درويش بموته هو، وبموت الآخر. وعلى اللون في شعره باعتباره رسّامًا بالكلمات، ألفاظه ألوان، وصوره خطوط، ومشاعرُه أضواءٌ وظلال، وقصائدهُ لوحاتٌ نابضة بالحياة. ولا يفوتنا التنويه إلى مراثيه التي تستحق أنْ يُسلط عليها الانتباه، لا باعتبارها قصائد رثاء كالتي نعرفها في شعرنا، القديم منه والمعاصر، بل لأنها في نظرنا تعد فتْحًا جديدًا، ومَسْلكاً بديعًا وضع المراثي للمرة الأولى على حوافّ القصيدة الكونية، التي تسمو على البكائيات، وتنتمي إلى مقامات الحبّ والثورة. ولا يدّعي المؤلف إنصاف درويش، أو إيفاءهُ حقه الذي هو دَيْنٌ في أعناق الدارسين، ونقاد الشعر، ولكنه بهذه الفصول الموجزة يسعى لفتح الطريق، إذ يحتاج هذا الشاعر الكبير لدراسات كثيرة، ومؤلفات تصنف حول شعره، ونثره، إن لم يكن لمجلدات تغتني بها مكتبة الشعر العربي، وتُثري. رحم الله " درويش "، وعوض الأمة العربية، والشعب الفلسطيني، عن حضوره بشعره الذي هو إلهامٌ عُلويّ، ووحيٌ استثنائيّ. المؤلف د. إبراهيم خليل