إخفاء
  • سلة الشراء فارغة !

مصقولة بطعم الحنظل وسير جنوبية أخرى (سيرة)

    السعر
  • 35.19 SAR

السعر بدون ضريبة : 30.60 SAR
أيّها المارّون بالنهضة، يحقّ لكم الحزنُ فيها، ويحقُّ لمزاجكم الانقلابُ إلى المرارة السوداء. فأبيحوا لقلوبكم الانقباض في هذا المكان الصغير الممتدّ من الجسر إلى الحَمّام، أشعلوا سجائركم فيها، وأوقدوا حرائق قلوبكم، فالجذوات لم تنطفئ ولمّا يبرد سعيرها بعد.       هنا، في هذا المكان، افترشَ الشبّانُ الأرضَ وناموا، لسنين طوال، بانتظارِ السيّاراتِ التي تقلّهم إلى النوم الطويل السرمدي. هنا كانوا يركضون بأقصى ما يستطيعون خلف "المنشآت" و"الريمات" مع علمهم أنّها تقلّهم إلى الحتوف المباغتة.. وسرعان ما يعودون إليها من جانب الجسر السريع وهم ممدّدون على ظهورهم وقد همد كلُّ شيء فيهم، تقطر توابيتهم دمًا كان يمكن ألا يسيلُ لولا النهضة. يمرّون عليها مرورَ الكرامِ بعد أن أعطوا كلَّ شيء ولم يحوزوا غير عَلَمٍ "يُفترض" أنهم ماتوا من أجله..     مكانٌ لا يصلحُ لغيرِ الحربِ أو التفكيرِ فيها أو الإعدادِ لها.. كلُّ الموغلين بالكراهية مرّوا من هنا بين الجسرِ والحَمّامِ، وهم يتقدّمون جيوشًا جرّارة.. هنا فكّر الجنرال مود بخطبته الحربيّة بعد "فتح" العراق، وهنا امتعض برسي كوكس ومطّ شفتيه استياءً لأنّه لم يجد ما افترض من مجدٍ تليدٍ غابرٍ.. وفيها تأمّلَ بريمر طويلًا كيما يوقد ذكرى الحربِ فيها مع بلدٍ آخرَ أو بين العراقيين أنفسهم.. ومن هنا مرّ من قبلهم سلاطينُ السلاجقةِ وأمراءُ العسكرِ منهم، وسلاطينُ آل عثمان وهم يخطّطون للقتل منتشين..     موحشةٌ ككهفٍ بدائيٍّ، نائيةٌ كأنّها على بُعد سنين ضوئيّةٍ من المدنيّةِ، مغبرّة أبدًا كأنّها تنهضُ من زلزالٍ وقعَ للتو.. وحدها النهضةُ تعرفُ أسرارَ الحروبِ الطويلةِ.. وتعرفُ لِم تنشبُ وكيفَ ستنتهي، ومع هذا تؤازرها وتصرُّ على أن تكونَ برزخًا قصيرًا بين الموتِ والحياةِ.. وتعرفُ النهضةُ سبلَ استفزازِ المكرهين على الحروبِ فتوقظهم بصليلِ اسمها الموجع ليغادروا فراشهم الدافئ لتتولّى هي، بعدها، نقلهم إلى ميادين الموتِ السريعِ الخاطفِ. تولّتْ مهمّةً مقيتةً واحدةً هي أخذُ الشبابِ، الشبابِ تحديدًا، إلى مواطنَ القهرِ التي يجهلون جغرافيتها فيُقتلون أو يُعدمون هناك بعيدًا عنها.. النهضةُ هي المكانُ الوحيدُ الذي يعرفُ الفارقَ بين ذهابِ الجنودِ وإيابهم، ففي ذهابهم يبدو الجنودُ مترعين بأمل العودة إليها سالمين، تمهلهم النهضةُ ريثما يكملون وجباتٍ سريعةٍ مقرفصين قربَ بائعاتِ الچاي الجميلاتِ كآخرِ محطّةٍ للحياةِ.. تبيحُ لهم اقتناصَ ما يثبتُ لهم أنهم ما زالوا أحياءً، وتغريهم بكتابة أسمائهم على حيطان الگراج المهلهلة وهم يسدّون أنوفهم من روائح البول المزكمة.. وتجرجرهم إلى أعمدة الجسر الصلبة لكتابة ذكرى قد تُعجبُ مسافرًا في زمن متخيّل قادمٍ لا حرب فيه. ثم يعودون إليها على ظهورِ سيّاراتِ الكراون هامدين وقد انطفأتْ عيونهم. يمرّون سراعًا حين تهبطُ الكراونات من الطريقِ السريعِ لتنعطفَ يمينًا نحو المدينةِ الأكثرِ إنجابًا للشهداء، ذلك لأنّ النهضةَ تجاورها.. فتلوّحُ بائعاتُ الچاي للتوابيتِ الملفوفةِ بعلمٍ لم يعدْ يذكره أحدٌ إلا مصحوبًا بالموتِ الذي تخيطُ النهضةُ أكفانه بمهارةٍ، ويردّدن للمتحلّقين حولهن من الجنود أن ثمةَ مَن لا يستحقُّ الموتَ.. تختزلها بعبارةٍ جنوبيّة الجرسِ والدلالة، يعرفها الجنود جيدًا:" ما يستاهلون".     آه من النهضةِ، المكانِ العصيِّ على الجمالِ، والمنتجِ للّوعةِ والفجيعةِ. مكانٌ يعافه العشاقُ غريزيًّا، ولا يمرُّ به المتهيئون لصنعِ منجزٍ جميلٍ.. ولو مرّوا مصادفةً فإن ما تثيره النهضةُ من لوعةٍ كفيلٌ بوأدِ الرغبةِ بالاستمرارِ فيه.   النهضةُ مكانٌ يعرفه الموتورون فقط، فمنه يستقلّون السيّاراتِ لإدراكِ ثأرهم، أو يعودون إليها وقد أنجزوا تدابيرَ قتلٍ مباغتٍ.. في النهضةِ يكتفي الخمّارةُ بالقليلِ من العَرَگ لأنّ روائحَ الفجائع، التي تحفلُ بها أرصفتُها، خمورٌ قويّةٌ وحدَها.. ولا معنى للأناقةِ في النهضةِ لأنّ التعرّقَ فيها أغزرُ حتى في الليالي الباردات، والتعبُ أوضحُ لأنّ حقائبَ الراحلين ثقيلةٌ دائمًا وأحلامهم كذلك، ولأنّ هواءَها ثقيلٌ بغبار مريبٍ أيضًا..     النهضةُ مكانٌ لا يألفه الموغلون في المحبّةِ، لأنّه خارجٌ على سننِ الحقِّ والجمالِ دائمًا.. فكم من باكٍ وباكيةٍ على محفظته التي "لطشها" النشّالةُ الذين تتضاعفُ مهاراتهم في النشلِ فيها. نشّالةُ النهضةِ يحملون حقائبَ كي يوهموا ضحاياهم بأنهم مسافرون، ويضعون عطرًا كالذي يضعه المسافرون أسفل أذانهم.. عطور يختارونها بعناية توهم بحسنِ النيّةِ..   قدرُ النهضةِ المصرّةِ عليه أنها واطئةٌ، فلا يشمخُ فيها بناءٌ، ولا تسطعُ إنارةٌ، ويموتُ فيها النخلُ برغمِ وفرةِ الماءِ لأنّه يسمو عليها ويسمقُ، فهي كالعينِ تكره مَا يعلو عليها برغم حَوَلها وقبحِ بؤبؤها.. وتمرُّ عقودٌ الزمنِ عليها وهي عصيّةٌ على التغييرِ.. فالقبحُ ديدنُها، والخوفُ سيّدُ المشاعرِ فيها. لا ذكرياتٌ للناسِ فيها غيرُ ألمِ الفقدِ.. يُصابُ المرتحلون إلى الأقاصي بحمّى الإسراع بمغادرتها، لهذا يقبلون بأي سعرٍ يضعه السوّاق.. فليس الوصولُ مهمًّا، المهمُّ أن يبتعدوا عن النهضةِ، الوجهِ الباردِ من الجحيم. لم ينجُ حتى السوّاق من هذا الوجعِ، لذا فهم يضغطون على دوّاساتِ البانزين بقوّةٍ ما أن تقبّط سيّاراتهم.. ويتمنّون لو أن لسيّاراتهم أجنحةً..     يقرأ العبريّةُ الفاتحةَ لأمّ البنين طمعًا بسلامةِ الوصول. هذا ما تشيعه النهضةُ، وفي الحقيقةِ أنّهم يقرؤونها شكرًا لله لأنّهم غادروها، يقرؤونها لأنهم لم يموتوا كما مات مَن قبلهم في حروب قرّرها سياسيون لم يروا النهضة، ولم يأكلوا من أطعمتها الفاسدةِ. ولو فعلوا لأصرّوا على تحويلِ النهضةِ إلى جنائنَ معلّقةٍ جديدةٍ.      لكلِّ مكانٍ لغتُه، ولغةُ النهضةِ التنكّرُ للحياةِ. النهضةُ المطليّةُ باللونِ الخاكي، وتعطُّ منها رائحةُ البولِ المتخمرّ لن تستسلمَ لغيرِ منطقها الحربيّ، فهي منطقةُ "خلفيّات" لحروبٍ بكلِّ الاتجاهاتِ والأشكال.. بدوام النهضةِ ستدومُ فكرةُ الحربِ في رؤوسِ أجيالٍ وأجيال.. فليبادرْ أهالي الشهداءِ، كلُّ الشهداءِ، وليبادرْ العشّاقُ معهم، إلى زراعةِ أشجارِ وردٍ في النهضةِ، وليعلّقوا أقمارًا في سمائها الحالكةِ الكالحةِ عسى أن تغيّرَ منطقها وتكفَّ عن حثّها الحثيثِ لنا لنبحثَ عن حربٍ جديدةٍ..   

كتابة تعليق

التحقق

كتب ذات صلة

المنتج غير متوفر حاليًا. أدخل عنوان بريدك الإلكتروني أدناه وسوف نقوم بإبلاغك بمجرد توفر المنتج.

 
 

 

 

البريد الالكترونى
رقم الهاتف